الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد قال الله تعالى: (قد أفلح من زكاها)، وذلك في سورة الشمس، ومن اللطائف المناسبة بين اسم السورة والنفوس تكون بإشراق أنوار الوحي فيها! وسورة الشمس سميت بهذا الاسم لأنه أبرز ما جاء في مستهلها الشمس وما يفعله نورها، قال في لباب التأويل في معنى التنزيل بعد أن ذكر الأقسام الأربعة (والشمس وضحاها) (والقمر إذا تلاها) (والنهار إذا جلاها) (والليل إذا يغشاها)، قال: "وحاصل هذه الأقسام الأربعة ترجع إلى الشمس في الحقيقة. لأن بوجودها يكون النهار ويشتد الضحى، وبغروبها يكون الليل ويتبعها القمر".
وسورة الشمس التي وردت فيها هذه الآية "مكية عند جميعهم"
قال الشوكاني ومثله الألوسي: مكية بلا خلاف، فهي مكية باتفاق، وعلى هذا نص القرطبي، وقال المخلاتي: "مكية اتفاقاً ونزلت بعد سورة القدر، ونزلت بعدها سورة البروج".
نعم في ذلك العهد عهد بناء رجال الإسلام الأوائل، وحملته المبشرين به الأجيال اللاحقة، كان لتزكية النفس شأن عظيم، وتزكية النفوس هي اللبنة الأولى نحو بناء أي مجتمع طاهر حضاري، يعيش حياته الدنيا كأكرم بني البشر وأسعدهم، ثم يتأهل فيها إلى حياته الأخروية الحقيقية الأبدية: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
ويدلك على أهمية الموضوع تلك الأقسام الإلهية، فهذه السورة تضمنت أطول قسم في القرآن الكريم! (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا).
ثم جاء الجواب: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
أحد عشر مقسماً به:
1- الشمس.
2- وضحاها.
3- والقمر إذا تلاها.
4- والنهار إذا جلاها.
5- والليل إذا يغشاها.
6- والسماء.
7- وما بناها.
8- والأرض.
9- وما طحاها.
10- ونفس.
11- وما سواها.
وإذا قلنا إن (ما) في قوله (وما بناها) (وما طحاها) (وما سواها) موصولة عادت كلها للقسم بواحد هو الواحد الأحد سبحانه وتعالى فالمعنى (والذي بناها والذي طحاها والذي سواها)، وهو الله تعالى، وعلى القول الآخر أنها مصدرية عادة إلى القسم بأفعال مختلفة هي بناء السماء: (وبناء السماء، وطحو الأرض، وتسوية النفس)، وأيّا ما كان فإن ههنا أحد عشر قسماً سواء تكرر باعتبار صفات أفعال مختلفة أو كانت أقساماً بأفعال مختلفة! ولا مثيل لتتابع المقسم به في القرآن الكريم لهذا الموضع.
أحد عشر قسماً على: (قد أفلح من زكاها)!
فشأن تزكية النفس عظيم، فبها تكون النجاة ويتحقق الفلاح، وبضدها يكون الخسران المبين، ولهذا قيل في مناسبة مضمون هذه السورة –سورة الشمس- لما قبلها: "إنه سبحانه لما ختمها [سورة البلد] بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، أورد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفذلكة، فقوله في الشمس: (قَد أَفلحَ مَن زكاها)، هم أصحاب الميمنة في سورة البلد، وقوله: (وقد خابَ من دساها) في الشمس، هم أصحاب المشأمة في سورة البلد، فكانت هذه السورة فذلكة تفصيل تلك السورة"(5).